سورة الضحى - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الضحى)


        


{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)}
لأهل التفسير في قوله: {والضحى} وجهان:
أحدهما: أن المراد بالضحى وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقي شعاعها.
وثانيها: الضحى هو النهار كله بدليل أنه جعل في مقابلة الليل كله.
وأما قوله: {واليل إِذَا سجى} فذكر أهل اللغة في {سجى} ثلاثة أوجه متقاربة: سكن وأظلم وغطى أما الأول: فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج: سجى أي سكن يقال: ليلة ساجية أي ساكنة الريح، وعين ساجية أي فائزة الطرف. وسجى البحر إذا سكنت أمواجه، وقال في الدعاء: يا مالك البحر إذا البحر سجى.
وأما الثاني: وهو تفسير سجى بأظلم. فقال الفراء: سجى أي أظلم وركد في طوله.
وأما الثالث: وهو تفسير سجى بغطى، فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار، مثل ما يسجى الرجل بالثوب، واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس: غطى الدنيا بالظلمة، وقال الحسن: ألبس الناس ظلامه، وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: إذا أقبل الليل غطى كل شيء، وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: سكن بالناس ولسكونه معنيان أحدهما: سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم والثاني: هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه واستوائه فلا يزداد بعد ذلك، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل، وفي هذه السورة أخره؟ قلنا: فيه وجوه:
أحدها: أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين، والليل له فضيلة السبق لقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وللنهار فضيلة النور، بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة، فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر، لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك، على هذا أخرى، ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله: {واسجدى واركعى} [آل عمران: 43] ثم قدم الركوع على السجود في قوله: {اركعوا واسجدوا} [الحج: 77].
وثانيها: أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر، وهاهنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب.
وثالثها: سورة والليل سورة أبي بكر، وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر، فإذا ذكرت الليل أولاً وهو أبو بكر، ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد، وإن ذكرت والضحى أولاً وهو محمد، ثم نزلت وجدت بعده، والليل وهو أبو بكر، ليعلم أنه لا واسطة بينهما.
السؤال الثاني: ما الحكمة هاهنا في الحلف بالضحى والليل فقط؟ والجواب: لوجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول: الزمان ساعة، فساعة ساعة ليل، وساعة نهار، ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار، ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى.
بل للحكمة، كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس، فلا كان الإنزال عن هوى، ولا كان الحبس عن قلى.
وثانيها: أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به، فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لم يكن بد من أن يعمل به، فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه، قال: هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه.
وثانيها: كأنه تعالى يقول: انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق.
السؤال الثالث: لم خص وقت الضحى بالذكر؟
الجواب: فيه وجوه:
أحدها: أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل، فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي.
وثانيها: أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه، وألقى فيها السحرة سجداً، فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفاً، فكيف فاعل الطاعة! وأفاد أيضاً أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك، والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك.
السؤال الرابع: ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل بكليته؟
الجواب: فيه وجوه:
أحدها: أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمداً إذا وزن يوازي جميع الأنبياء والثاني: أن النهار وقت السرور والراحة، والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات، يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة، ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت أن امطري الهموم والأحزان مائة سنة، ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة، فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً.
وثالثها: أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر، والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور، فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت، ولما بعد الموت على ما قبله، فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل.
ورابعها: ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره.
السؤال الخامس: هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره؟ والجواب: نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال: والضحى ذكور أهل بيته، والليل إناثهم، ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي، لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش، ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب: والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب. ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كل غريباً والليل إشارة إلى أنه سيعود غريباً، ويحتمل والضحى كمال العقل، والليل حال الموت، ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيباً، وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيباً.


{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو عبيدة والمبرد: ودعك من التوديع كما يودع المفارق، وقرئ بالتخفيف أي ما تركك، والتوديع مبالغة في الوداع، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك والقلى البغض. يقال: قلاه يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه، قال الفراء: يريد وما قلاك، وفي حذف الكاف وجوه:
أحدها: حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك، ولأن رؤس الآيات بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف.
وثانيها: فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا (قلا) أحد من أصحابك. ولا أحداً ممن أحبك إلى قيام القيامة، تقريراً لقوله: المرء مع من أحب.
المسألة الثانية: قال المفسرون: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال المشركون: قد قلاه الله وودعه، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية، وقال السدي: أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة، فقالت: لعل ربك نسيك أو قلاك، وقيل: إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، وروي عن الحسن أنه قال: أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم الوحي، فقال لخديجة: إن ربي ودعني وقلاني، يشكو إليها، فقالت: كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك فنزل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} وطعن الأصوليون في هذه الرواية، وقالوا: إنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه، بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة، وربما كان الصلاح تأخيره، وربما كان خلاف ذلك، فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها، أو ليعرف الناس قدر علمها، واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي، فقال ابن جريج: اثنا عشر يوماً، وقال الكلبي: خمسة عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة وعشرون يوماً، وقال السدي ومقاتل: أربعون يوماً، واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف، فقال: «سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله» فاحتبس عنه الوحي، وقال ابن زيد: السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين، فلما نزل جبريل عليه السلام، عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة وقال جندب بن سفيان: رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه، فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت
فأبطأ عنه الوحي، وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وهاهنا سؤالان.
السؤال الأول: الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى: قلنا أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركاً للأفضل والأولى، وصاحبه لا يكون ممقوتاً ولا مبغضاً، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل: ما جئتني حتى اشتقت إليك، فقال جبريل: كنت إليك أشوق ولكني عبداً مأموراً وتلا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} [مريم: 64].
السؤال الثاني: كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده: إني لا أبغضك تشريفاً له؟
الجواب: أن ذلك لا يحسن ابتداء، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له: إني لا أبغضك ولا أدعك، وسوف ترى منزلتك عندي.
المسألة الثالثة: هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله، إذ لو كان من عنده لما امتنع.


{وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)}
واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوهاً أحدها: أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة، بل أقصى ما في الباب، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال: انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت، لكن الموت خير لك. فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا.
وثانيها: لما نزل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي هذا التشريف وإن كان عظيماً إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم.
وثالثها: ما يخطر ببالي، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز، ومنصباً إلى منصب، فيقول: لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصباً وجلالاً، وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيراً من الأولى؟
الجواب: لوجوه:
أحدها: كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد.
وثانيها: الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم، وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة، ثم سمى الولد قرة أعين، حيث حكى عنهم: {هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].
وثالثها: الآخرة خير لك لأنك اشتريتها، أما هذه ليست لك، فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيراً لك، لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكاً لك، فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل.
ورابعها: الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيداً على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيداً لك كما قال: {وكفى بالله شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29 28].
وخامسها: أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة، ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة.
السؤال الثاني: لم قال: {وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ} ولم يقل خير لكم؟
الجواب: لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شراً له، فلو أنه سبحانه عمم لكان كذباً، ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون. ولهذا السبب قال موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وأما محمد صلى الله عليه وسلم فالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعاً، لا جرم قال: {إِنَّ الله مَعَنَا} [التوبة: 40] إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق، وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء، ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة، فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة. فقال: لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة، فسأل موسى من هو؟ فقال: (إني) أبغضه فكيف أعمل عمله، فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات، وهذه جنازته في مصلى، كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى، فإذا فيها سبعون من الجنائز، فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه. ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة، وهي أنه عليه السلام قال: «لولا شيوخ ركع» وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة، فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب واحد، وهاهنا يرحم المذنبين لمطيع واحد.

1 | 2 | 3 | 4